في متابعتنا المستمرة لمؤشرات الشفافية في إدارة المرحلة الانتقالية، وتحديداً بعد نشر مرصد الشفافية لتحليله السابق الذي لفت الانتباه إلى وجود شخصين مجهولين في اجتماعات أحمد الشرع مع الوزراء – استناداً إلى كؤوس مرطبات ومواضع جلوس لم تُشرح في الصور الرسمية – ظهرت صور جديدة تؤكد فعلاً وجود هذين الشخصين، لكن دون أن ترافقها أي معلومات رسمية عن هويتهما أو مهامهما.
الصور أتاحت التعرف على هوية الشخص الجالس مباشرة إلى جانب أحمد الشرع، وهو علي كِدِه، الذي شغل منصب وزير الداخلية لفترة قصيرة قبل تشكيل الحكومة الانتقالية. وبحكم قربه المعروف من أحمد الشرع، وظهوره المتكرر سابقاً في اجتماعاته الرسمية مع الوفود الخارجية، ثم الآن بجانبه في اجتماعاته مع الوزراء، يُرجّح أنه يشغل موقعاً غير معلن في صلب دائرة القرار، وقد يؤدي دور مدير المكتب التنفيذي أو يقوم بمهام تنسيقية محورية بين رئاسة السلطة التنفيذية والوزارات.
أما الشخص الثاني، الجالس إلى يسار علي كِدِه، فهو عامر نامس العلي، وقد نُشر خبر عاجل مؤخراً عن تعيينه رئيساً للهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، وهي هيئة حساسة تتبع – حسب الأنظمة الإدارية المعمول بها سابقاً – مباشرة لمؤسسة الرئاسة، وتُناط بها مهام رقابية عالية المستوى. اللافت أن هذا الإعلان أتى بعد ظهور عامر العلي في الصور، ما يُعزز فرضية أن نشر الخبر تم كردّ فعل لاحق، لتبرير وجوده الذي لم يكن مُعلناً، في خطوة قد تُعتبر تضليلاً إعلامياً متعمّداً.
كما أن طبيعة تعيين عامر نامس العلي في هذا الموقع الحساس، وتوقيته، يثيران تساؤلات إضافية حول مدى استقلالية الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش. فالشخص المعيّن محسوب مباشرة على تنظيم “هيئة تحرير الشام”، ما يُضعف الثقة في الدور الرقابي المنوط بهذه الهيئة، ويُحولها – في هذا السياق – من جهة رقابية مستقلة إلى أداة محتملة للضبط السياسي داخل البنية الحكومية.
من جانب آخر، فإن تداخل المهام غير المعرّف مؤسسياً بين علي كِدِه وماهر الشرع يُظهر حالة من الغموض المقصود في إدارة الحلقة المحيطة بأحمد الشرع غير شفافة في هرم السلطة التنفيذية، إذ يشارك – فيما يبدو – علي كِدِه بانتظام في الاجتماعات الوزارية ويُمارس عملياً مهاماً تنسيقية، ما يضعه فعلياً في موقع مدير المكتب التنفيذي، حتى وإن لم يُعلن ذلك رسمياً. وفي المقابل، يُصدر ماهر الشرع بلاغات رسمية بصفته “الأمين العام لرئاسة الجمهورية”، وهو منصب ورد بهذا التوصيف في البلاغ رقم 14، دون أن يسبقه أي إعلان رسمي عن استحداث هذا المنصب أو تحديد صلاحياته ضمن الهيكل الحكومي المُعلن. ويُثير هذا التوازي شبه المؤسسي بين علي كِدِه وماهر الشرع – أحدهما مقرّب من الشرع والآخر، وهو شقيقه، موقّع رسمياً على قرارات موجهة للحكومة – شكوكاً إضافية حول وجود آلية غير شفافة لتوزيع السلطة داخل الحلقة التنفيذية. فبدلاً من وجود تراتبية واضحة ومعلنة، يبدو أن المهام موزعة فعلياً بين شخصيات محسوبة مباشرة على تنظيم “هيئة تحرير الشام”، دون تعريف قانوني يحدد صلاحياتهم، ما يعكس خللاً خطيراً في توزيع الصلاحيات ويقوّض مبادئ الحوكمة الرشيدة.
رسمياً، يشغل أحمد الشرع منصب رئيس الحكومة الانتقالية المعلن عنها، ما يعني أن الصلاحيات التنفيذية ينبغي أن تُمارس من خلاله مباشرة. إلا أن المعطيات الحالية – من ظهور شخصيات غير معلنة، إلى غياب تحديد رسمي لأدوارهم – تُثير مخاوف جدية من وجود قنوات غير رسمية تتحكم بالتواصل بين رئاسة الحكومة وبعض الوزراء، خصوصاً أولئك القادمين من خارج البنية التنظيمية لـ”هيئة تحرير الشام”، التنظيم الذي يشكل القاعدة السياسية التي يستند إليها الشرع.
في هذا السياق، يبدو أن شخصيات مثل علي كِدِه وماهر الشرع تلعب أدواراً وسيطة قد لا تقتصر على التنسيق الإداري، بل تمارس عملياً نوعاً من الرقابة غير المعلنة على الوزراء غير المحسوبين على التنظيم. وبخلاف الوزراء المرتبطين مباشرة بهيئة تحرير الشام، والذين يُفترض أن لديهم قنوات تواصل مباشرة مع أحمد الشرع، فإن الوزراء من خارج التنظيم الذين تم تصديرهم على أنهم خبراء تكنوقراط قد يجدون أنفسهم مضطرين للعبور عبر هذه القنوات الوسيطة، مما يُخضعهم لطبقة من الوصاية السياسية والإدارية غير المصرّح بها.
هذا التفاوت في العلاقة مع رئاسة الحكومة يعكس اختلالاً بنيوياً في توازن السلطة التنفيذية، ويهدد بتكريس تراتبية خفية داخل الحكومة، على أسس الولاء التنظيمي لا الكفاءة المؤسسية، وهو ما يناقض تماماً متطلبات الحوكمة الرشيدة خاصة في مرحلة انتقالية.
ظهور الأشخاص في الصور لم يحلّ الإشكال، بل عمّقه: فالمشكلة لم تكن في غيابهم البصري، بل في غيابهم القانوني والمؤسسي. إن إدارة الدولة عبر شخصيات غير مُعلنة، أو عبر مواقع لم تُعرّف، هو أمر يناقض بوضوح مبدأ الحوكمة الرشيدة، ويقوّض أي محاولة جدّية لبناء ثقة بين السلطة والمجتمع.
من هنا، يؤكد مرصد الشفافية مجدداً على المطالب التالية:
- الإعلان الكامل عن هويات ومهام جميع الحاضرين في الاجتماعات الحكومية، خاصة من يوقعون على قرارات رسمية.
- نشر محاضر أو ملخصات موثقة للاجتماعات الوزارية والرئاسية.
- توضيح منصب “الأمانة العامة للجمهورية” ووضع ماهر الشرع القانوني وصلاحياته.
- توضيح المنصب الرسمي لعلي كِده ووضعه القانوني وصلاحياته.
- ضمان استقلالية الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش وتوضيح علاقتها بالرئاسة ضمن المرحلة الانتقالية.
إن التساهل في وضوح هياكل السلطة التنفيذية ومواقع النفوذ داخلها، يؤدي إلى بناء إدارة غامضة، ويُنذر بتكرار أخطاء الماضي، وإن بوجوه جديدة.