تأسست الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية بقرار صادر عن رئيس مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال محمد البشير، حيث مُنحت صلاحيات واسعة شملت الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري. لم يكن ذلك مجرد تعديل إداري محدود، بل تحول جوهري نَقَلَ مؤسسات سيادية وحيوية مثل الجمارك والموانئ والمناطق الحرة والنقل البحري من وزارات متعددة، وسحب صلاحياتها ووضعها في مؤسسة واحدة مستقلة تتجاوز الوزارات وتبتعد عن المساءلة التقليدية. إحداث تغييرات بهذا العمق لا يدخل في صلاحيات حكومة تصريف أعمال، بل يمثل تجاوزاً واضحاً على حدود مهمتها المؤقتة.

ومع سقوط منصب رئيس مجلس الوزراء في الحكومة الانتقالية، باتت الهيئة عملياً بلا مرجعية مباشرة، ويُرجّح أنها أصبحت مرتبطة برئاسة الجمهورية. هذا التحول يضاعف من خطورة موقعها، إذ أن الإعلان الدستوري أعفى مؤسسة الرئاسة من أي مساءلة أو رقابة وسحب من الهيئة التشريعية حق المحاسبة. والنتيجة أن مؤسسة واسعة النفوذ تدير منافذ البلاد البرية والبحرية والجمارك والمناطق الحرّة، لكنها تتحرك خارج أي إطار تشريعي أو رقابي واضح.
في الممارسات العالمية المتعارف عليها تُعتبر إيرادات الجمارك ركيزة أساسية لمالية الدولة وتُدار عبر وزارة المالية. أما في الوضع الحالي فإن استقلال هيئة المنافذ مالياً يجعل هذه الإيرادات تُدار داخل صندوق مغلق لا يدخل مباشرة في حسابات الدولة. هذا يثير أسئلة جدية حول مصير الأموال وكيفية صرفها، وهل تتحول إلى أداة نفوذ سياسي واقتصادي بيد قيادة هيئة المنافذ بدل أن تكون مورداً وطنياً شفافاً يخدم المجتمع بأكمله. ويزداد الأمر خطورة مع كون الهيئة باتت اليوم مسؤولة أيضاً عن تحديد تسعيرة الجمركة للمستوردات والأجور في جميع المنافذ البرية والبحرية والجمركية والأسواق الحرّة، إضافة إلى حرية التعاقد المباشر مع أي شركة أو كيان دون الرجوع لأي مرجعية في الدولة.
عقب تشكيل هيئة المنافذ جرى حل الضابطة الجمركية واستُبدلت بعناصر المجموعة العسكرية التي كان يقودها قتيبة بدوي، وهي مجموعة مسلحة تتبع “هيئة تحرير الشام” كانت تدير معبر باب الهوى ثم توسعت لتدير كامل الحدود في محافظة إدلب مع تركيا، وتمتعت المجموعة العسكرية باستقلالية مالية ولها سلاحها الخاص. انتقل عناصرها ومسلحوها بالكامل ليصبحوا الكوادر والقيادات في المؤسسة الجديدة، دون وضوح ما إذا شمل الأمر تسريح موظفين مدنيين أو اقتصر فقط على الضابطة الجمركية. امتلاك هيئة المنافذ للسلاح يعزز صورتها ككيان شبه عسكري ويعطى انطباعاً بأنها أقرب إلى كانتون أو إمارة داخل الدولة.
ومن الأنشطة المثيرة للجدل أن هيئة المنافذ تقيم حواجز تفتيش على الطرقات الرئيسية بشكل منفرد وفيما يبدو من دون أي تنسيق مع وزارة الداخلية، بينما لا تتوفر معلومات كافية عن قيامها بمهام تقليدية لمكافحة التهريب مثل تفتيش المستودعات والمتاجر كما كانت تفعل الجمارك سابقاً. انتشار الحواجز وتوسع النشاط الأمني خارج حدود المنشآت الرسمية للهيئة يسلط الضوء على اتساع صلاحياتها، ويطرح أسئلة إضافية حول استخدام السلاح وتبعيته الفعلية، خاصة وأنها لا تخضع لأي وزارة وتتمتع باستقلال إداري ومالي كامل بعيداً عن أي مساءلة أو محاسبة. ويضاف إلى مهام هيئة المنافذ عمليات إلقاء القبض -على المهرّبين بشكل أساسي- مباشرة، ما يعني امتلاكها لصلاحيات أمنية إضافية خارج إطار القانون، ويثير احتمال وجود أماكن احتجاز خاصة أو سرية، بما يعيد إنتاج نهجها السابق حين كانت فصيلاً مسلحاً يفرض سلطته بالقوة لكنه اليوم أصبح مؤسسة رسمية ضمن الدولة.
تعدد الوزارات ضمن هذه المنشآت في السابق قد يخلق بطئاً وبيروقراطية، لكنه يوفّر أيضاً نوعاً من التوازن المؤسسي ويمنع التفرد ويحد من المحسوبية. أما اليوم، وبعد الدمج الكامل للمهام والصلاحيات في يد هيئة واحدة، تلاشت البيروقراطية الظاهرة لكن برزت مخاطر أكبر تتمثل في الاستفراد بالقرار وتكريس الدولة الغنيمة. غياب بنية تحتية إلكترونية متطورة لإدارة الموارد وتوفير مصدر معلومات مفتوح يزيد من هذه المخاطر ويجعل هيئة المنافذ أداة لإعادة إنتاج الفساد بدل مكافحته، ويضع مستقبل التجارة والمنافذ السورية في صندوق مغلق بعيد عن الرقابة المجتمعية والمؤسساتية.
لقد تحولت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية إلى كيان فوق الدولة وفوق المحاسبة ويملك السلاح خارج الإطار القانوني. هي ليست مجرد إعادة تنظيم إداري، بل تعبير عن استمرار نهج الدولة الغنيمة من خلال خلق كانتونات داخل الدولة تتحكم بالموارد بمعزل عن الرقابة. الإصلاح الحقيقي يبدأ بإعادة هذه الموارد إلى مكانها الطبيعي في المال العام والخزينة وربط هيئة المنافذ بأنظمة شفافية ورقابة مؤسسية، كي تصبح أداة لبناء الدولة لا صندوقاً أسود يرسخ غياب الشفافية ويكرّس الاستفراد بالموارد ويقوّض أسس الدولة ويضعف بنيتها المؤسسية.