تفتح قرارات “إعادة المفصولين تعسفاً والمنشقّين عن نظام الأسد” و”الإجازات المأجورة التي أقرتها الإدارة الانتقالية بعد هروب الأسد” نافذة لاختبار جِدّية الإدارة الانتقالية في بناء مؤسسات عادلة لا تُعيد إنتاج الإقصاء. المُلاحَظ اليوم أن المُهَل الزمنية لإعادة الالتحاق بالوظائف، خصوصاً للقضاة المنشقين، قصيرة إلى حدٍّ يجعلها عملياً عائقاً كبيراً أمام شريحة واسعة خاصة المقيمين في دول الشتات. وفي ملف الإجازات المأجورة، جاء الإنهاء المفاجئ بعد تمديدات متعاقبة، مع توقيتٍ شديد الضيق للتبليغ والعودة، بما يُنذر بآثار مؤسسية واجتماعية سلبية واسعة.
وبعد مرور ما يقارب عشرة أشهر على هروب بشار الأسد؛ لم تشهد عملية إعادة المنشقّين والمفصولين تعسفاً تقدّماً ملموساً، إذ صدرت مراسيم وتعاميم أعادت بعض القضاة وأعداداً محدودة من موظفين وموظفات في مؤسسات أخرى، لكن الإعلانات المرافقة التي حددت مواعيد نهائية ضيقة للتقدّم أو لإجراء المقابلات وضعت معظم العاملين في الشتات خارج القدرة على الاستفادة منها، نظراً لصعوبة ترتيب السكن والتنقل والوثائق خلال فترة قصيرة. هذا الأسلوب تكرر في عدد من المؤسسات حيث حُددت مواعيد نهائية خلال أيام معدودة أو بأسلوب إنذاري، وهو ما يتعارض مع متطلبات العدالة في مرحلة انتقالية. فالمعايير المعتمدة في أدبيات العدالة الانتقالية تؤكد أن نزاهة الإعادة لا تتحقق بمجرد إصدار قرار، بل بتهيئة الظروف التي تجعل الاستفادة منه واقعية من خلال آجال معقولة، وإتاحة مسارات اعتراض، وأخذ ظروف الشتات بالحسبان، وإلا تحولت العودة إلى إجراء شكلي فاقد للجدوى.
وضمن المرحلة الإنتقالية في سوريا؛ ينبغي أن يبقى ملف إعادتهم مفتوحاً طوال هذه الفترة. ولضمان سير الإجراءات بفعالية، يمكن لوزارة التنمية الإدارية إنشاء مكتب متخصص يتولى استقبال الطلبات والتواصل مع المؤسسات المعنية ودراسة الملفات عبر إعلان مفتوح ودائم يتيح لأي موظفـ\ـة سابق الرغبة في العودة إلى عمله التقدم بطلبه. على هذه اللجنة أن تراعي سنوات الانقطاع وما اكتسبه الأفراد من خبرات جديدة خلال الفترة الماضية، وأن تُقرن ذلك بآليات تعويض معنوي ومادي، تشمل تسوية الانقطاع في صندوق التقاعد وصرف تعويض مالي لجبر الضرر الناتج عن الفصل التعسفي. كما ينبغي توفير إمكانيات التقديم عن بُعد وإجراء مقابلات إلكترونية، مع منح مرونة إضافية للعاملين في الخارج عبر توفير مدة زمنية كافية لترتيب السكن ونقل الأسر وضمان الاستقرار قبل المباشرة بالعمل فعلياً.
وفيما يخص ملف الإجازات المأجورة، فقد مُدِّدت الإجازات في أيار/مايو 2025 لآلاف العاملين حتى 31 آب/أغسطس 2025 بتمام الأجر، ريثما يُبحث وضعهم، ثم في أواخر آب صدر تعميمٌ ينهي الإجازة ويُلزم الجميع بالعودة اعتباراً من 1 أيلول/سبتمبر. هذا الانتقال السريع من تعليق إلى عودة فورية خلق ارتباكاً واسعاً. بلاغ وزارة الصحة – على سبيل المثال – الصادر في 31 آب جاء متأخراً وأبلغ الموظفين بوجوب العودة في اليوم التالي مباشرة، مع منحهـم مهلة لا تتجاوز 15 يوماً فقط، والتلويح بتطبيق القاعدة القانونية التي تعتبر من لا يباشر عمله خلال هذه الفترة بحُكم المستقيل. أي أن الموظف غير القادر على العودة لأسباب تتعلق بالظروف المعيشية والتنقل يسقط من الخدمة حكمياً إذا لم يستطع العودة بالسرعة المطلوبة. هذا الإجراء يعكس ارتجالاً في صنع القرار ويزيد من شعور الموظفين والموظفات بالغبن وفقدان الثقة.

من المهم الإشارة أن مؤسسات الدولة السورية تقوم على كتلةٍ بشرية كبيرة وتضم شرائح مجتمعية واسعة وخاصة من ميسوري الحال. التسريح بالكتل أو التعليق الطويل ثم العودة الفورية يخلق صدمة تنظيمية ونقمة اجتماعية، ويبعث برسالة سياسية إقصائية توحي بالعقاب الجماعي بدل الإصلاح المؤسسي الذكي. التجارب الدولية المقارنة مثل العراق، تُظهر أن المقاربات الواسعة والغامضة للتجريد الوظيفي تحت مسمى “اجتثاث البعث” أسهمت بتسييس الإدارة وتعميق المظلومية، وهو خطأ لا يجوز تكراره.
المطلوب اليوم ليس الاكتفاء بالقرارات الشكلية أو التعامل السطحي مع هذه الملفات، بل العدالة الإجرائية التي تؤكد عليها أدلة الأمم المتحدة في مجال العدالة الانتقالية، بما يشمل إشراك الفئات المتضررة، ومراعاة الواقع العملي، وتجنّب السياسات التي تُشبه التطهير الوظيفي الشامل ولو حملت أسماءً مختلفة. هذه مبادئ حاكمة لأي انتقال يسعى إلى بناء ثقة مستدامة بين الدولة والمجتمع.