يعاني مزارعو القمح في سوريا من أزمة متجددة بعد موسم ضعيف لم يلبِّ التوقعات، إذ كان يُفترض أن يوفر انفراجاً نسبياً في تأمين احتياجات البلاد من الحبوب، لكنه انعكس في الواقع سلباً على إيرادات الفلاحين. ومع أن الحكومة أعلنت عن آلية جديدة لصرف مستحقات شراء القمح عبر تطبيق “شام كاش” بالدولار وعلى عدّة دفعات تُصرف كل خمسة عشر يوماً، فإن شكاوى المزارعين ما زالت تتزايد بسبب عدم وصول كامل مستحقاتهم. بعضهم لم يحصل على أي مبلغ حتى الآن، فيما اكتفى آخرون باستلام الدفعة الأولى فقط، وظلوا في انتظار ما تبقى دون جدوى، ما خلق حالة واسعة من التذمر وأجبر كثيرين على الاستدانة لتغطية تكاليف الموسم وتسديد ديونهم.

التقديرات الرسمية كانت قد تحدثت عن إنتاج يتجاوز 750 ألف طن من القمح لهذا الموسم، مع توقعات بتسويق ما بين 200 و300 ألف طن إلى المؤسسة السورية للحبوب. وفي الثاني من تموز/يوليو، أعلنت المؤسسة عن استلام أكثر من 291 ألف طن. ووفق التسعيرة الرسمية، جرى تحديد سعر شراء الطن من القمح القاسي درجة أولى بـ320 دولاراً أمريكياً، ومن الطري بـ300 دولار، إضافة إلى مكافأة تشجيعية قدرها 130 دولاراً عن كل طن يتم تسليمه. هذا يعني أن القيمة الإجمالية للمستحقات على الكمية المستلمة فقط تتجاوز 125 مليون دولار، في المقابل لم يُعلن رسمياً سوى عن 10 ملايين دولار في منتصف آب/أغسطس، إلى جانب دفعة أولى جزئية في مطلع تموز لم يُكشف عن حجمها، من دون أي بيانات إضافية من مصادر رسمية حول دفعات أخرى.

الآلية الرقمية الجديدة التي رُوّج لها كخطوة نحو التحديث والشفافية تحولت سريعاً إلى مصدر جدل واسع، ليس فقط بسبب التأخر في صرف المستحقات، بل أيضاً بسبب الصعوبات العملية التي رافقتها. فقد أُلزم الفلاحون بفتح حساب “شام كاش” لتلقي المدفوعات بالدولار، وهو ما شكل تحدياً إضافياً لفئات واسعة منهم لا تملك الخبرة الرقمية أو إمكانية الوصول السهل إلى الخدمات الإلكترونية. والواقع كشف عن عراقيل عديدة مثل ضعف الإنترنت في الأرياف، والأخطاء المتكررة في إدخال البيانات وتأخر تفعيل الحسابات، إضافة إلى الأعطال التقنية المستمرة وشكاوى من صعوبة الاستخدام ونقص مراكز الدعم الفني. كما أثيرت تساؤلات حول الرسوم أو التكاليف غير المعلنة لعمليات السحب، وانعدام إمكانية الحصول على الأموال نقداً خاصة في المناطق البعيدة. وبدل أن تصبح وسيلة الدفع ضمان الحقوق كما أُعلن، أصبح التطبيق مرادفاً للتأخير والتعقيد.

تطرح تجربة هذا الموسم أسئلة جدية حول الشفافية والحوكمة في إدارة ملف القمح. فغياب البيانات الدقيقة عمّا صُرف فعلياً مقارنة بما هو مستحق، وتفاوت التجربة بين المحافظات، وفرض آلية دفع جديدة دون تمهيد كافٍ للمزارعين أو تجهيز للبنية التحتية، كلها مؤشرات على خلل في إدارة قطاع حيوي بهذا الحجم. وإضافة إلى ذلك، فإن حصر الدفع من خلال تطبيق واحد يثير مزيداً من الشكوك، خصوصاً مع غياب الوضوح حول تبعية هذا التطبيق إن كان لجهة حكومية أم خاصة، بينما إلزام المزارعين بالقبض حصرياً عبره يقيّد حريتهم في اختيار وسائل بديلة مثل الحسابات المصرفية أو استلام الأموال نقداً. هذه الفجوة المستمرة بين الكميات المسوّقة والمبالغ المدفوعة لا تعكس فقط أزمة مالية، بل تكشف أيضاً عن بداية أزمة ثقة بين الفلاحين والدولة. فعندما لا يحصل المزارع على مستحقاته بوضوح وفي الوقت المناسب، تتحول الوعود الحكومية إلى كلمات فارغة تفقد قيمتها.

أزمة مستحقات القمح هذا العام لم تعد مسألة محلية تخص المزارعين وحدهم، بل أصبحت قضية وطنية تمس الأمن الغذائي برمته. فالتأخر في السداد أو غيابه لا يهدد فقط التزام الفلاحين بتسليم محاصيلهم مستقبلاً للمؤسسة الرسمية، بل قد يحرمهم أيضاً من القدرة على زراعة محاصيل جديدة نتيجة افتقاد السيولة اللازمة، وحتى إن وصلت الأموال لاحقاً تكون مواسم البذار قد انقضت. مثل هذا الوضع يعرّض استقرار السوق للخطر ويقوض أي حديث عن الاكتفاء الذاتي. معالجة الأزمة تقتضي أولاً نشر بيانات واضحة وشفافة حول حجم المدفوعات والفجوات، وثانياً توفير آليات دفع عادلة وسهلة الوصول، بدلاً من إبقاء الفلاحين عالقين بين فشل إداري ووعود مؤجلة.