أصدر ماهر الشرع، الأمين العام لرئاسة الجمهورية، بلاغاً يقضي بإلغاء جميع الصكوك التي تتضمن تعيين مستشارين في الإدارات المركزية والجهات العامة، إلى جانب إنهاء عقود الخبرة المستندة إلى المادة 86 من قانون مجلس الدولة رقم 32 لعام 2019.

البلاغ لم يصدر عن مجلس الوزراء، ولا عن رئيس الجمهورية نفسه، بل عن مكتب داخل مؤسسة الرئاسة. ورغم ذلك، امتد أثره إلى بنية الدولة كلها، ما يجعلنا أمام قرار أقرب في مضمونه إلى مرسوم رئاسي فعلي، ويطرح سؤالاً جوهرياً:
من يملك سلطة اتخاذ مثل هذا القرار؟ ومن يمارس السلطة التنفيذية فعلياً في سوريا؟
هذا المقال لا يناقش البلاغ من زاوية إدارية أو فنية، بل يركّز على ما يكشفه من تحوّل جوهري في هيكل السلطة في البلاد، حيث بات مركز القرار يتشكل خارج الحكومة، ومن داخل مكتب لا يخضع لنص دستوري، ولا يُساءَل سياسياً أو قانونياً.
في الظاهر، يشغل ماهر الشرع منصب “الأمين العام لرئاسة الجمهورية”، وهو موقع أعيد تشكيله بموجب المرسوم التشريعي رقم 38 لعام 2023، الذي ألغى فيها بشار الأسد “وزارة شؤون رئاسة الجمهورية” واستحدث بدلاً منها “الأمانة العامة”، لتتبع مباشرة لرئيس الجمهورية.
وبحسب المرسوم، فإن الأمانة العامة “تُقدّم الأعمال التي تساعد رئيس الجمهورية في أداء مهامه واختصاصاته، وتتولى تسيير الشؤون الإدارية والمالية والقانونية في رئاسة الجمهورية”، بينما يُعامل الأمين العام كالوزير من حيث الراتب والتعويضات، ويمارس صلاحيات الوزير المختص على جميع العاملين في الرئاسة.
أي أن هذا المنصب صُمم ليكون داعماً إدارياً للرئاسة ضمن حدود المؤسسة، لا مركز قرار سيادي يتجاوزها.
لكن في الممارسة، يستخدم ماهر الشرع هذا الموقع لتوسيع سلطته نحو مؤسسات تنفيذية وقضائية خارج نطاق الرئاسة، مُصدراً بلاغات تُعيد تشكيل الإدارة العامة دون المرور بالحكومة أو برئيس الجمهورية.
ويُعزز هذا النموذج غير القانوني موقع علي كده، بصفته “معاون الأمين العام لشؤون مجلس الوزراء” — وهي تسمية تبدو إدارية في ظاهرها، لكنها تحوّلت فعلياً إلى رئاسة غير معلنة للحكومة. إذ يتولى علي كده تنسيق أعمال الوزراء، والتوجيه المباشر لهم، دون أن يحمل صفة تنفيذية رسمية.
وبهذا، باتت السلطة التنفيذية تُدار من خلال هيكل موازٍ وغير معلن، لا يخضع لمجلس الوزراء، ولا يُصدر مراسيم، ولا يخضع للمساءلة، لكنه يملك سلطة القرار اليومي داخل أجهزة الدولة.
هذا الواقع يُخالف بشكل مباشر نصوص الإعلان الدستوري المؤقت الذي يُفترض أنه المرجعية الدستورية المؤقتة للبلاد. حيث تنص المادة 31 بوضوح على أن:
“يمارس رئيس الجمهورية والوزراء السلطة التنفيذية ضمن الحدود المنصوص عليها في هذا الإعلان الدستوري.”
في حين تمارس السلطة اليوم، فعليًا، عبر ثلاث مستويات غير خاضعة لهذا النص:
- رئيس الجمهورية المعيّن (أحمد الشرع)
- شقيقه ماهر الشرع (الأمين العام للرئاسة)
- علي كده (معاون الأمين العام لشؤون مجلس الوزراء)
هذا التكوين لا يُربك فقط مفهوم المسؤولية التنفيذية، بل يُضعف مبدأ وحدة الحكومة، ويُفرّغ السلطة من مضمونها المؤسسي.
ويتجلى الخلل بوضوح أكبر في تجاوز مجلس الدولة، الذي يُعد هيئة قضاء إداري مستقلة بموجب قانون رقم 32 لعام 2019، ويتولى إبداء الرأي القانوني للجهات العامة، والإشراف على تعيين المستشارين القانونيين وانتدابهم.
فرغم أن المجلس يتبع إدارياً لرئيس الجمهورية، ويُعيّن رئيسه بمرسوم، إلا أنه يتمتع باستقلال قضائي، ولا يجوز لأي جهة تنفيذية التدخل في صلاحياته. وتؤكد المادة 43 من الإعلان الدستوري المؤقت أن:
“السلطة القضائية مستقلة، ولا سلطان على القضاة إلا للقانون.”
وتضيف المادة 45 أن:
“يتولى مجلس الدولة القضاء الإداري، وهو هيئة قضائية واستشارية مستقلة، ويبيّن القانون اختصاصاته وشروط تعيين قضاته وصلاحياته.”
بلاغ ماهر الشرع تجاوز ذلك تماماً، فألغى عقود مستشارين دون المرور برئيس مجلس الدولة، ودون العودة للمؤسسة التي تُصدر هذه القرارات قانوناً، في تعدٍّ صريح على استقلال القضاء الإداري، وتهميش لمؤسسة من المفترض أن تكون ضامناً لشرعية الأداء الحكومي.
وهنا لا نتحدث فقط عن مخالفة إدارية، بل عن خرق لمنظومة التوازن بين السلطات، وعن إزاحة تدريجية للمؤسسات القانونية من دائرة القرار.
وإذا كانت هذه الصلاحيات أصلاً منوطة برئيس الجمهورية بحسب الدستور، فلماذا يصدر البلاغ من شقيقه؟ ومن فوضه؟ وما مدى شرعية ممارسة صلاحيات سيادية دون تفويض، ودون مساءلة، ومن خارج أي نص رسمي؟
ما يجري لا يُشير فقط إلى تغوّل إداري، بل يكشف عن بنية موازية تدير الدولة بعيداً عن النصوص الدستورية، وتتجاوز القانون، وتقصي المؤسسات الرقابية، وتُعيد توزيع السلطات بوسائل غير معلنة.
وهنا، يصبح السؤال الأهم:
هل ما زالت الدولة تُدار بالقانون، أم من خارجه؟

