في 29 كانون الثاني/يناير 2025، أعلنت الفصائل العسكرية خلال ما سمّي بـ “مؤتمر انتصار الثورة السورية” في قصر الشعب بدمشق عن تعيين أحمد الشرع رئيساً للمرحلة الانتقالية، وتعليق العمل بدستور 2012، وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية للنظام السابق بكامل فروعها. كان ذلك الإعلان مؤشراً على محاولة القطع مع تاريخ طويل من القمع الأمني الذي شكّل جوهر سلطة الأسد.
لكن المفارقة أن تعيين أنس خطاب رئيساً لجهاز جديد باسم “الاستخبارات العامة” كان قد جرى بالفعل قبل المؤتمر بثلاثة أيام، في 26 من الشهر نفسه. أي أن الجهاز بدأ بالتشكّل قبل إعلان حل الأفرع الأمنية، ما يوحي بأنه لم يكن نتيجة المؤتمر بل امتداد مباشر لمجموعة أمنية استخباراتية سابقة كان خطاب يقودها ضمن هيئة تحرير الشام، لتتحوّل إلى نواة المؤسسة الأمنية الجديدة.
لاحقاً، تولى خطاب وزارة الداخلية مع احتفاظه برئاسة الاستخبارات، قبل أن يُعيَّن حسين السلامة رئيساً للجهاز بقرار مباشر من أحمد الشرع. ومنذ ذلك الحين، يظهر السلامة بصفته الممثل العلني الوحيد للجهاز في مناسبات أمنية أو زيارات خارجية، مثل مشاركته في وفد موسكو الأخير.

كون عدم تبعيته لأي مؤسسة أخرى وتعيين رئيس الجهاز من أحمد الشرع، فهذا يعني أنه يتبع مباشرة لرئاسة الجمهورية. إلا أن الإعلان الدستوري الجديد (13 آذار/مارس 2025) أعفى منصب الرئيس من أي مساءلة وسحب من مجلس الشعب صلاحية محاسبته، ما يجعل الجهاز عملياً فوق أي رقابة تشريعية أو قضائية، ويكرّس وضعه كمؤسسة أمنية مطلقة الصلاحية.
المشكلة الجوهرية أن هذا الجهاز لا وجود قانونياً له في أي نص دستوري أو تشريعي، ولم يُذكر في الإعلان الدستوري أو القوانين المنشورة، ولا يتبع لأي وزارة، ما يجعله عملياً مؤسسة فوق دستورية وفوق المحاسبة. لا هوية رسمية لعناصره، لا زيّ محدّد، ولا مقرات معلنة. هذا الغموض يفتح الباب أمام مخاوف من وجود سجون سرّية أو اعتقالات خارج القانون، في استعادة خطيرة لأسوأ ممارسات الماضي.
تاريخياً، تعدد الأجهزة الأمنية في سوريا كان وسيلة للحكم السلطوي. فقد أنشأ حافظ الأسد إدارة المخابرات العامة لتكون أداة سيطرة مباشرة من الرئاسة على الفروع الأمنية، ثم وُضعت لاحقاً تحت مكتب الأمن الوطني في القصر الجمهوري. ورغم أن القانون كان يربطها بوزارتي الداخلية والدفاع، إلا أن الواقع جعلها خاضعة حصراً لسلطة الرئيس، في خرق دائم للدستور.
اليوم، يبدو أن سوريا تكرر التجربة نفسها بصيغة مختلفة. فبدلاً من إرساء قواعد شفافية في المرحلة الانتقالية، نواجه مؤسسة أمنية جديدة بلا إطار قانوني ولا رقابة مدنية أو قضائية. وهذا يهدد بتقويض الحوكمة الرشيدة وإعادة إنتاج دولة بوليسية بواجهة جديدة.
لكي لا يتحول “الجهاز الجديد” إلى نسخة من الماضي، لا بد من إقرار قانون تأسيسي منشور يحدد مهامه وصلاحياته وحدود عمله بوضوح، وربطه بوزارة خاضعة للمساءلة. كما يجب إنشاء آليات رقابية برلمانية وقضائية مستقلة، وضمان سجل وطني للتوقيف يمنع الاحتجاز غير القانوني.
الانتقال من شرعية العنف إلى الشرعية القانونية يتطلب مواجهة هذه الثغرة في قلب الدولة. فالأمن لا يُبنى على السرية المطلقة، بل على الثقة العامة، والمساءلة، واحترام الحقوق. من دون ذلك، فإن “الاستخبارات العامة” قد تكون مجرد استمرار مقنّع لنهج الأجهزة الأمنية القديمة، لا خطوة نحو سوريا أكثر حرية وعدلاً.