كشف تقرير لوكالة رويترز أن الإدارة السورية المؤقتة تتجه للتعاقد مع شركة روسية لطباعة العملة الورقية الجديدة في سوريا. هذا الكشف يثير مخاوف جدّية ليس فقط بسبب طبيعة الشركة نفسها، بل أيضاً بسبب سجلها الحافل بالاتهامات بالتزوير والعقوبات الدولية.
الشركة المعنية هي JSC Goznak، وهي مؤسسة حكومية روسية متخصصة في إنتاج الأوراق الأمنية مثل العملة، جوازات السفر، والمستندات الرسمية. لكن سجلها الدولي مثقل بالمخاطر. ففي العام الماضي، أدرجتها وزارة الخزانة الأمريكية على القائمة السوداء، متهمة إياها بتقديم الدعم لمكتب الأمن الفيدرالي الروسي من خلال منتجات تُستخدم في سياقات أمنية، إضافة إلى مسؤوليتها عن طباعة عملة ليبية مزيفة بأكثر من مليار دولار، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في ليبيا والإضرار بثقة المواطنين بالدينار. كما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على الشركة قبل ذلك بعامين، متهماً إياها بتقويض سيادة أوكرانيا عبر طباعة جوازات سفر ومستندات في المناطق المحتلة، ولحقت بها دول أخرى مثل بريطانيا وسويسرا ونيوزيلندا.
خطورة التوجه للتعامل مع هذه الشركة لا تقف عند كونها خاضعة للعقوبات، بل تمتد إلى ما قد يعنيه ذلك على مستقبل الاقتصاد السوري. فالاعتماد على Goznak يجعل أي تعامل مالي خارجي بالعملة الجديدة عرضة للرفض أو التجميد من قبل المصارف الدولية وشركات التحويل، وهو ما قد يحرم السوريين من إمكانية استخدام عملتهم في التجارة والتحويلات الخارجية. وقد لا تعامل العملة الجديدة كاستمرار للإصدارات السابقة من العملة السورية التي وُجدت قبل الحرب والعقوبات، بل كإصدار مختلف تماماً و”منتج روسي” بالدرجة الأولى. وهذا يضاعف احتمالات رفضها في الأسواق الدولية خوفاً من الوقوع في فخ تعقيدات العقوبات المفروضة على روسيا وسوريا معاً والرغبة بحرمان روسيا من الإيرادات الخارجية في صراعها مع أوربا وأمريكا.
أما داخلياً، فإن مجرد ارتباط هذا الإصدار باسم شركة متهمة سابقاً بإغراق ليبيا بعملة مزيفة وعدم وجود ضمانات بعدم تكرارها في سوريا يكفي لإضعاف الثقة بالعملة الجديدة منذ لحظة ظهورها. وهذا الارتباط وحده كفيل بفتح الباب أمام موجة جديدة من فقدان الاستقرار النقدي داخل البلاد، حيث لن ينظر المواطنون إلى العملة الجديدة كخطوة إصلاحية، بل كخطر إضافي يهدد قدرتهم الشرائية ويعمّق شعورهم بانعدام الأمان الاقتصادي.
المخاوف هنا لا تتوقف عند المخاطر الأمنية والسياسية؛ بل تشمل أيضاً بُعداً أخلاقياً واقتصادياً شائكاً. فمن أجل استبدال الأوراق النقدية التالفة قد يكون الرجوع إلى نفس المورد، أي الشركة الروسية التي تولت سابقاً طباعة الإصدارات الحالية من الليرة السورية بموجب عقود مع نظام الأسد، أمراً مبرراً من الناحية العملية. لكن لجوء الإدارة الانتقالية إلى هذه الجهة لطباعة “عملات جديدة بالكامل” في ظل سجل الشركة الروسية المليء بالعقوبات والاتهامات وتورط روسيا بالحرب وقتل المدنيين في سوريا، يبدو قراراً غير مبرر وغير مثمر؛ بل يضع مصداقية العملة والدولة نفسها أمام خطر حقيقي.
هذا الواقع يهدد مباشرة ثقة المواطنين بالدولة وبمؤسساتها، إذ سيُنظر إلى العملة الجديدة باعتبارها أداة سياسية مرتبطة بروسيا أكثر من كونها رمزاً لسيادة وطنية. والأخطر أن ربط مصير العملة السورية بمطابع روسية يمنح موسكو نفوذاً واسعاً على القرار المالي السوري، بحيث تستطيع في أي وقت التأثير على السوق عبر التحكم بالكميات أو تأخير الطباعة، أو حتى إغراقه كما حدث في ليبيا.
المحصلة أن الاستعانة بشركة مثل Goznak لا يمكن اعتبارها مجرد صفقة تقنية لطباعة أوراق جديدة، بل هي قرار سياسي واقتصادي محفوف بالمخاطر معرضاً العملة السورية لاهتزاز الثقة محلياً ودولياً، ويجعل حياة الناس أكثر هشاشة أمام التضخم وانهيار القدرة الشرائية، ويضع مستقبل الاقتصاد بيد طرف خارجي متورط بقتل المدنيين السوريين وله سجل سلبي في النزاعات الدولية والابتزاز السياسي والاقتصادي.
إذا كان الهدف إصدار عملة جديدة، فإن ذلك لا يستدعي بالضرورة الاعتماد على مصدر مثير للجدل ومرتبط بعقوبات دولية. بل يصبح من الأجدى البحث عن بدائل أكثر مصداقية وشفافية، حتى لا تتحول خطوة يفترض أن تعزز الاستقرار الاقتصادي إلى عامل إضافي لزعزعة الثقة بالدولة وعملتها الوطنية.