منذ تعيينه سفيراً للولايات المتحدة في تركيا ومبعوثاً خاصاً إلى سوريا، أثار توماس برّاك (باراك) أسئلة أكثر مما قدّم أجوبة. الرجل الذي جاء من عالم الاستثمار والعقار، محاطاً بتاريخ طويل من الصفقات مع رؤوس أموال خليجية، يظهر اليوم لاعباً مؤثراً في مسار إعادة تشكيل سوريا المُنهكة بعد سنوات طويلة من الحرب. لكنّ خلفية برّاك، وتصرفاته الأخيرة، تجعلان من الصعب التعامل معه كدبلوماسي نزيه أو ممثّل حقيقي للسياسة الأمريكية.

حضور برّاك المتكرر في دمشق لتوقيع صفقات قطرية ضخمة مرتبطة تحديداً بشركة UCC، وبغياب واضح لأي حضور دبلوماسي أو سفير غربي آخر، يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة هذا الحضور، أكان بصفته الدبلوماسية أم كشريك مساهم مستفيد، وإن كان رسمياً فلماذا غاب نظراؤه. هنا يعود بنا النظر إلى تاريخه الطويل مع قطر. فشركته السابقة «كولوني» كانت شريكاً في شراء شركة الإنتاج السينمائي «ميراماكس» ثم بيعها لمجموعة «بي إن» القطرية، وباعت شركته حصّتها في نادي باريس سان جيرمان إلى الصندوق السيادي القطري، كما أبرمت صفقات سياحية كبرى مع «قطر هولدينغ» في سردينيا فتحت السلطات الإيطالية على إثرها تحقيقاً ضريبياً. هذه الصلات ليست مجرّد مصادفات عابرة، بل شبكة ممتدة من التشاركات الاقتصادية، ما يجعل حضوره في دمشق اليوم استمراراً لنمط علاقات مالية قديمة تتجدّد بغطاء دبلوماسي، مع شبهة أن يكون شريكاً خفياً في الصفقات الموقعة.

السياسة الأمريكية تجاه سوريا شهدت في 2025 تحولاً مدروساً يتمثل في رفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية مع إبقاء عقوبات فردية ومحاولة لتنسيق موقف دولي في مجلس الأمن. هذا هو الإطار المؤسسي الرسمي. لكن برّاك تصرّف كرائد صفقات أكثر من كونه دبلوماسياً فرفع العلم الأمريكي في دمشق قبل اكتمال الإجراءات وأعلن تقليص القواعد العسكرية إلى واحدة قبل أن تُعلن البنتاغون خططها التفصيلية وتجاهل تقارير أممية وصحفية عن انتهاكات في السويداء مبرّئاً الإدارة الانتقالية من أي دور. هذه الممارسات توحي بأن برّاك يمشي ضمن خطته الخاصة بسرعة واندفاع لا تعبّران عن توافق أمريكي داخلي بل عن أجندة شخصية تستعجل التطبيع مع الإدارة الانتقالية وتُرضي شركاءه الاستثماريين في دول الخليج.

ولا يمكن قراءة اندفاع برّاك الحالي بمعزل عن ماضيه القضائي. ففي 2022 بُرّئ من تهمة العمل كعميل غير مسجّل للإمارات، وهي قضية أثارت جدلاً واسعاً في واشنطن آنذاك. لائحة الاتهام تحدّثت عن ضغوط ورسائل واتصالات مع مسؤولين إماراتيين، وعن إدخال تعديلات على خطابات انتخابية ورئاسية بما يخدم مصالح أبوظبي، إلى جانب استثمارات بمئات الملايين من الدولارات ضُخت في شركاته وصناديقه الاستثمارية. ورغم أن هيئة المحلفين برّأته في النهاية، فإنّ تفاصيل المحاكمة كشفت عن تشابك كثيف بين المال والسياسة في مساره. البراءة القانونية لم تُلغ الشبهة السياسية، وحين يجلس برّاك اليوم إلى جانب تكتلات قطرية وتركية في دمشق تبدو علامات الاستفهام أكبر حول ما إذا كان يمثّل الولايات المتحدة فعلاً أم شبكة مصالح إقليمية ممتدة.

اللافت أنّ السلطة السورية الانتقالية نفسها تجد في برّاك فرصة. فحضوره في دمشق، وموافقته على توقيع صفقات كبرى، تمنحها غطاءً دولياً وتُظهرها كشريك مُعترف به. إنّه شكل من أشكال الرشوة السياسية، انخراط سريع في صفقات استثمارية يضمن للسلطة شرعية مؤقتة في عيون الداخل، مقابل غض الطرف عن الحاجة الأعمق إلى إصلاح سياسي حقيقي ومشاركة أوسع في السلطة. وهكذا تتحول الاستثمارات إلى أداة لإعادة إنتاج السيطرة، بدل أن تكون مدخلاً لبناء حوكمة شفافة ورشيدة.

حادثته الأخيرة في لبنان، حين هاجم الصحفيين في قصر بعبدا بكلمات متعالية، تعكس عقلية لا ترى في الإعلام شريكاً للشفافية بل عائقاً يجب ترويضه. ومع سجلّه التجاري الملتبس وتصريحاته المتناقضة، تترسّخ صورة رجل لا يمثل النزاهة ولا يعكس شخصية دبلوماسية ذات تاريخ سياسي وخبرة عميقة، خاصة في بلد منهك كسوريا التي تحتاج إلى من يفهم خصوصية الشعوب والمجتمعات الخارجة من حكم ديكتاتوري نحو مرحلة بناء دولة مواطنة ديمقراطية.

ملف برّاك ليس شأناً شخصياً، بل قضية تمسّ مستقبل الحوكمة في سوريا. فبينما تفتح البلاد أبوابها لاستثمارات مليارية، يتقدّم مشهدها لاعب أمريكي محاط بشبهات فساد سياسي وانعدام مصداقية. وإذا لم تُرفَق هذه الصفقات بمستويات عالية من الإفصاح والتدقيق، فإنها لن تكون سوى غطاء لتثبيت السلطة وتوزيع الغنائم، لا رافعةً لبناء دولة شفافة وعادلة. وهنا تبرز الحاجة إلى أن تقوم الصحافة الحرة المحلية السورية والأمريكية ومراكز الدراسات ومنظمات المجتمع المدني بتسليط الضوء أكثر على هذه النقاط وإثارتها، من أجل دفع النقاش العام نحو الشفافية والمساءلة الحقيقية.