أصدرت وزارة الخارجية والمغتربين بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 2025 وثيقة تحدد شروط منح تراخيص عمل مؤقتة للمنظمات الدولية غير الحكومية (INGOs) الراغبة في العمل داخل سوريا. ورغم أن الهدف المعلن هو تنظيم عملها وتعزيز أنشطتها، إلا أن القراءة المتأنية تكشف أن هذه الشروط تقوم على مركزية صارمة ورقابة سياسية أكثر من كونها إطاراً شفافاً يعزز دور المجتمع المدني الدولي كشريك في التنمية المستدامة والإغاثة.

إسناد الملف إلى وزارة الخارجية مُنفردة أمر غير مألوف، إذ أن الممارسات الدولية توكل هذا الاختصاص عادةً إلى وزارات أو هيئات مدنية متخصصة بالعمل الأهلي، بينما يقتصر دور وزارات الخارجية على العلاقات الدبلوماسية مع الدول والمنظمات الحكومية الدولية. كما أن وزارة الخارجية تفتقر إلى الأدوات والمكاتب القادرة على دراسة الأثر وتقييم الاحتياجات ومراجعة نجاح أو فشل الأنشطة والمشاريع، وهو ما يجعلها غير مؤهلة عملياً لإدارة هذا الملف. في المقابل، تبدو وزارات أخرى مثل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أقدر على الاضطلاع بهذه المهمة. هذا يعكس أن السلطات السورية تنظر إلى المنظمات الأجنبية كملف سيادي–أمني لا كجزء من المجتمع المدني أو شريك في التنمية المستدامة، وهو ما يؤدي إلى تسييس عملية الترخيص وإضعاف الشفافية.

وتُلزم الوثيقة المنظمات الدولية غير الحكومية بالتواصل حصراً عبر ما سمّته بالشريك الوطني، والمقصود به الهلال الأحمر السوري والأمانة السورية للتنمية. هذا التحديد الحصري يقلل من قيمة بقية منظمات المجتمع المدني المحلية ويقصيها من فرص التعاون، في حين يُفترض أن تكون هي الشريك الطبيعي للمنظمات الأجنبية، لكنها عملياً ستُعامل كما لو كانت طرفاً ثالثاً في الأنشطة والمشاريع. وهكذا تتحول فكرة الشراكة إلى وصاية مزدوجة على العمل الأجنبي والمحلي معاً.

الترخيص نفسه معنّون بأنه مؤقت ولا يتجاوز السنة الواحدة قابلة للتجديد. هذا الطابع يحد من قدرة المنظمات على الاستثمار في مشاريع طويلة الأمد أو برامج تنموية مستدامة، ويدفعها إلى الاكتفاء بمشاريع قصيرة الأجل مرتبطة بجدول التجديد السنوي. ويضاف إلى ذلك أن المادة (4) تشترط تقديم برنامج عمل كامل مع تفاصيل مالية وزمنية قبل الحصول على الترخيص، وهو شرط غير واقعي لأن أي منظمة تحتاج أولاً إلى عمل ميداني وتقييم للاحتياجات قبل صياغة خططها.

كما تحمل المواد الأخرى قيوداً إضافية. فالمادة (5) تمنع انضمام أي شخص يشغل منصباً سياسياً أو حكومياً. ورغم أن الهدف المعلن هو الحياد، إلا أن ذلك قد يستبعد منظمات تُعنى بالديمقراطية والتوعية المدنية وغالباً ما تضم شخصيات عامة، وهو ما يوحي بأن الترخيص سيُمنح عملياً لمنظمات ذات طابع إنساني وإغاثي وتنموي فقط.

أما المادة (8)، فرغم نصها على ضرورة تسبيب قرار الرفض، فإنها لا تتيح أي آلية اعتراض أو استئناف، ما يترك القرار بيد وزارة الخارجية دون مساءلة. وفي الوقت نفسه، تعلن الوثيقة منح حرية الحركة للمنظمات لكنها تربط كل نشاط أو لقاء أو زيارة بموافقة مسبقة من الوزارة والشريك الوطني، وهو تناقض واضح يفرغ الحرية من مضمونها. كذلك يُلزم المنظمات بتقارير شهرية إلى جانب تقارير ربعية وسنوية مفصلة، وهو عبء بيروقراطي يحوّل التقارير إلى وسيلة رقابية أكثر منه أداة للتقييم الموضوعي.

وتنص المادة (16) بوضوح على أن تنفيذ المشاريع يجب أن يتم بالتنسيق مع الوزارات والسلطات المعنية، ما يعني عملياً أن أي نشاط مستقل للمجتمع المدني لن يكون ممكناً من دون المرور عبر قنوات حكومية رسمية. وهذا يضاعف من القيود المفروضة على استقلالية العمل.

كذلك تستخدم الوثيقة مصطلحات فضفاضة مثل “عدم المساس بسلامة الجمهورية” أو “التعامل فقط مع الجهات التي تسمح بها الحكومة”، وهي عبارات تفتح الباب أمام تفسيرات سياسية واسعة. وتضاف إلى ذلك القيود المالية مثل منع الاحتفاظ برصيد مالي يتجاوز ثلاثة أمثال المصروفات السنوية أو إلزام تسليم الأصول والمشاريع للوزارات بعد الانتهاء، ما يحد من الاستدامة ويعرقل استمرار البرامج التقنية أو التشغيلية. كما تشترط الوثيقة موافقة خطية لإشراك أي طرف ثالث، وهو ما يقلل من مرونة التعاون مع موردين أو خبراء، وبذلك حتى عندما ترغب المنظمات بالعمل مع شريكها الوطني الحقيقي من المجتمع المدني المستقل، فإنها ستُضطر إلى التعامل معه كما لو كان طرفاً ثالثاً يحتاج لموافقة إضافية.

وأخيراً، تنص المادة (28) على التفاوض الودي لمدة ثلاثين يوماً قبل اللجوء للتحكيم داخل سوريا وبالقانون السوري. غير أن التفاوض الودي ممارسة طبيعية أصلاً ولا قيمة قانونية لإدراجه بهذا الشكل. كما أن استخدام كلمة “تحكيم” يبدو غير دقيق، فالأدق الحديث عن التقاضي أمام المحاكم السورية كمرجعية طبيعية وفق القانون السوري، وهو ما يعد إجراءً مفهوماً من حيث الحاجة إلى مرجعية قانونية وطنية.

في الخلاصة، تكشف الوثيقة أن السلطات السورية تتعامل مع المنظمات الدولية غير الحكومية باعتبارها جهات منفذة تحت الوصاية، لا شركاء مستقلين في التنمية المستدامة ومن منظور الشفافية والحوكمة الرشيدة، فإن أبرز الإشكاليات تكمن في حصر الشراكة الوطنية بجهات محددة، والاعتماد على ترخيص مؤقت وتجديد سنوي، وغياب آليات الاعتراض، وفرض موافقات مسبقة على الحركة والشراكات، إضافة إلى القيود المالية والإدارية والمصطلحات الفضفاضة القابلة للتأويل السياسي. المطلوب اليوم هو إطار شفاف ومتوازن يتيح للمنظمات الدولية العمل بحرية مع المجتمع المدني المحلي وفق معايير علنية ومساءلة متبادلة، بعيداً عن الرقابة السياسية أو الأمنية التي تحوّلها إلى أدوات تابعة لا شركاء فاعلين.


نص الوثيقة الكامل: