أثار إعلان وزير المالية محمد يسر برنية عن تخصيص عشرة ملايين دولار أمريكي لدعم مشاريع محلية في درعا (ضمن مبادرة أبشري حوران) تساؤلات جدّية حول الصلاحيات وآليات اتخاذ القرار المالي. فقد جاء التصريح وكأن الوزير يملك سلطة فردية على تحريك هذا المبلغ من الموازنة العامة، من دون أي إشارة إلى وجود آلية رسمية لاعتماد القرار أو المرور عبر لجنة مختصة بالموازنة العامة. الأخطر أن الإعلان أُطلق بأسلوب يوحي بوجود ارتجال مالي بعيد عن التخطيط الدقيق للموازنة، وهو ما قد يعكس ثغرات عميقة في إدارة المال العام خلال المرحلة الانتقالية.
في الدول التي تعتمد مبادئ الحوكمة الرشيدة، لا يُفترض أن يملك الوزير صلاحية فردية لتخصيص مبالغ كبيرة خارج الإطار المُعتمد للموازنة. التصريح الأول أوحى بأنه قرار شخصي، بينما التصريح الثاني الذي أوضح أن الأموال من مخصصات موازنة 2025 وبالتنسيق مع وزارة الإدارة المحلية لم يشر هو الآخر إلى أي آلية رسمية مثل لجنة الموازنة أو قرار حكومي يعقبه مرسوم صادر عن رئاسة الجمهورية. غياب هذه الإجراءات يعكس ضعفاً مؤسسياً ويثير الشكوك حول أسلوب إدارة الأموال العامة.

حالياً تعمل الدولة وفق الموازنة الاثني عشرية (أي كل شهر بشهره)، حيث يُسمح بالإنفاق شهرياً بنسبة 1/12 من موازنة العام السابق. هذا النظام المالي يهدف إلى ضبط الإنفاق بدقة، خصوصاً في ظل الأزمات. لكن تخصيص عشرة ملايين دولار دفعة واحدة، أو الإعلان عن دعم إضافي بنسبة “20 سنتاً لكل دولار”، يوحي بقرارات ارتجالية بعيدة عن هذا الإطار المحسوب.
كما صرّح الوزير برنية أن الحكومة ستضيف 20 سنتاً عن كل دولار (و20 قرشاً عن كل ليرة سورية) يتبرع بها المواطنون. قد تبدو هذه الصيغة تحفيزية، لكنها في الواقع مجرد اقتطاع من الموازنة العامة وليست مورداً جديداً. الموازنات لا تُدار بأسلوب “العروض الترويجية”، بل بخطط مدروسة، ما يجعل هذه الطريقة دليلاً إضافياً على الارتجال وضعف التخطيط المالي.
تبلغ الموازنة العامة لعام 2025 نحو 52.6 تريليون ليرة سورية، منها 37 تريليون للإنفاق الجاري و15.6 تريليون للإنفاق الاستثماري، مع عجز يقارب 11 تريليون ليرة أي ما يعادل 21% من الإجمالي. ويُمول نحو 79% من الإنفاق عبر الضرائب، أي ما يعادل تقريباً 2.2 مليار دولار فقط. هذه الأرقام توضح أن الموارد محدودة والعجز مزمن، ما يجعل أي التزامات إضافية أو مساهمات عبئاً إضافياً على المال العام.
في الوقت نفسه، لا تنشر الدولة بيانات دقيقة حول حجم الاحتياطي النقدي أو الذهبي. آخر الأرقام المعروفة تعود إلى عام 2012 حين تراجع الاحتياطي من نحو 17 مليار دولار إلى أقل من النصف. غياب هذه المعلومات يعكس انعدام الشفافية ويجعل من المستحيل التأكد من وجود قاعدة مالية حقيقية لتمويل مثل هذه المبادرات. عادةً ما تُخصص الدول صندوقاً خاصاً للمنح ولدعم المنظمات والمبادرات الأهلية والمجتمعية ويندرج ضمن الموازنة، لكن في الحالة السورية لا يُعرف إن كان مثل هذا الصندوق موجوداً فعلاً مع التشكيك في وجوده أساساً نظراً للعجز الكبير في الموازنة.
الإشكالية لا تكمن في دعم المشاريع المحلية بحد ذاته، بل في الطريقة التي قُدم بها القرار، حيث ظهرت صلاحيات فردية من دون آلية مؤسسية، وارتجال مالي في أسلوب التمويل، وغياب للتفاصيل حول مصدر الأموال وآلية الصرف. إدارة المال العام بهذه الطريقة تحوّله من حق للمواطنين إلى أداة دعائية، وتُقوض مبادئ الشفافية والحوكمة الرشيدة التي يفترض أن تؤسس لها المرحلة الانتقالية. المطلوب اليوم أن تُدار الموازنة باعتبارها جزء من العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، لا منّة من وزير أو مبادرة ظرفية.