أصدرت رئاسة جامعة اللاذقية مؤخراً تعميماً يمنع منعاً باتاً أي تجمع ذي طابع سياسي أو اجتماعي ما لم يتم الحصول على موافقة مسبقة وصريحة، تحت طائلة المسؤولية القانونية والإدارية. هذا التعميم أثار غضباً واسعاً ليس فقط بين الطلبة والكادر الجامعي بل أيضاً في أوساط المجتمع السوري، لكنه في الحقيقة لم يكن سوى حلقة من سلسلة أوامر بدأت من الأمانة العامة للشؤون السياسية، وجرى تعميمها عبر المحافظين لتصل إلى الجامعات والمؤسسات.

تعميم رئاسة جامعة اللاذقية بناء على كتاب محافظ اللاذقية

منذ تأسيس الأمانة العامة للشؤون السياسية في آذار 2025 بقرار من وزير الخارجية أسعد الشيباني، تحوّلت هذه الجهة إلى مرجع أعلى يملك صلاحية المنح والمنع لأي نشاط عام. التعميم الصادر عن محافظة اللاذقية في آب/أغسطس الماضي كان واضحاً في تكليف المؤسسات والجهات التنفيذية بعدم السماح بأي فعالية من دون موافقة مسبقة من الأمانة العامة للشؤون السياسية، بما يشمل المؤتمرات والندوات والتجمعات واللقاءات. بهذا المعنى، لم تعد الجامعات ولا النقابات ولا المنظمات ولا التجمعات المحلية تملك أي حرية في إدارة نشاطاتها، بل أصبحت جميعها رهينة موافقة جهاز إداري–سياسي مُستحدث.

تعميم محافظ اللاذقية بناء على تعليمات من الأمانة العامة للشؤون السياسية

ما يثير القلق أكثر أن مدراء مكاتب أمانة الشؤون السياسية في المحافظات بدؤوا يظهرون في الإعلام ويرعون الأنشطة بشكل موازٍ أو حتى منافس لدور المحافظين والمسؤولين المحليين، الأمر الذي يخلق ازدواجية في السلطة ويضعف أي شكل من أشكال الإدارة المحلية. بهذا السلوك، تستعيد الأمانة آليات حزب البعث الذي كان يفرض هيمنته على المجتمع من خلال فروعه ومسؤوليه المحليين.

وقد صرّحت أمانة الشؤون السياسية بأنها ستدعم المؤسسات في عملها، لكن هذا الدعم سرعان ما يتحول إلى تدخّل مباشر في شؤونها. فهي لا تقتصر على تنظيم النشاطات السياسية والاجتماعية، وإنما تمتد إلى عمل المؤسسات العامة نفسها، إذ نجد في هيكليتها مسؤولاً موازياً لكل وزارة ومؤسسة حكومية يتابع شؤونها، بالإضافة إلى مديري مكاتب في المحافظات وحتى مسؤولي مناطق. وأكد مدير الأمانة محمد ياسر كحالة المخاوف عندما أكّد أن من بين المبادئ التي تقوم عليها الأمانة “إدارة المجتمع”، وهو تصريح يكشف أن الهدف لم يعد مجرد تنظيم إداري بل وصاية شاملة تتجاوز المؤسسات إلى المجتمع والدولة بأكملها. وبهذا تصبح الأمانة بمثابة رقيب فوق المجتمع والدولة معاً.

كما أن الأمانة بسطت سيطرتها على النقابات المهنية والعمالية عبر تعيين مباشر لمجالس إدارتها، متجاوزة كل الأعراف والتقاليد التي تضمن استقلالية النقابات وحق أعضائها في اختيار قياداتهم عبر انتخابات حرة ونزيهة. وقد ظهر ذلك جلياً في نقابة المحامين التي جرى تعيين مجلسها بعيداً عن أي عملية انتخابية، وكذلك في نقابات مهنية أخرى كالأطباء والمهندسين، حيث جرى فرض إدارات جديدة بقرارات إدارية، ما يعكس محاولة الأمانة التحكم المباشر بالنقابات وتفريغها من مضمونها التمثيلي المستقل، تماماً كما كان يفعل حزب البعث في عقود سيطرته السابقة.

تتضح الصورة أكثر عندما نرى أن قرار وزارة الخارجية بتأسيس الأمانة العامة للشؤون السياسية منحها الإشراف على أصول ومقرات حزب البعث المنحل والجبهة الوطنية التقدمية، لتصبح الوريث المباشر للدور الذي كان يمارسه حزب البعث الذي كان قد رسّخ هيمنته عبر المادة الثامنة من دستور 1973 التي نصّت صراحة على أنه الحزب القائد في المجتمع والدولة. واليوم، ورغم غياب الغطاء الدستوري، فإن الأمانة تمارس عملياً الوظيفة ذاتها بالتحكم بالمجال السياسي والمجتمعي، واحتكار الترخيص والوصاية على النشاط العام.

كما إن إدراج الأمانة تحت سلطة وزارة الخارجية يتعارض مع طبيعة ومهام عمل هذه الوزارة، فالمفترض أن تنصرف الخارجية إلى السياسة الدولية والعلاقات الدبلوماسية لا أن تفرض وصايتها على تفاصيل الحياة السياسية الداخلية. هذا التداخل يرتبط بشخصية الوزير أسعد الشيباني، الذي كان يقود الذراع السياسي لهيئة تحرير الشام قبل استحواذها على السلطة وانفرادها بالمرحلة الانتقالية، ثم ضم ذلك الذراع إلى وزارته بعد توليه المنصب. وبهذا يكرّس مجدداً إنتاج نموذج الدولة الغنيمة، حيث يسعى كل قيادي من تنظيم هيئة تحرير الشام إلى إنشاء كانتون أو إمارة خاصة به داخل مؤسسات الدولة.

التجربة في الأشهر الأخيرة أثبتت أن الأمانة العامة للشؤون السياسية لم تُنشأ لتنظيم الحياة السياسية، بل لإعادة إنتاج نموذج الحزب القائد بواجهة إدارية جديدة. فهي تفرض الوصاية على المؤسسات، تنافس السلطات المحلية، وتحتكر صلاحية السماح أو المنع لأي نشاط عام. وتكمن الخطورة هنا في أنها ليست حزباً سياسياً معلناً يمكن محاسبته، بل كيان غريب أُقحم داخل وزارة الخارجية ليتحوّل إلى كانتون سياسي خاص، الأمر الذي يجعل وجودها ليس مجرد أمر غير مألوف بل موضع شبهة كاملة. ما نراه اليوم ليس بداية لانفتاح سياسي، بل امتداد لنهج السيطرة الشمولية بغطاء وزاري، يدمج تنظيم هيئة تحرير الشام مع الدولة ويقوّض أي أمل ببناء دولة تقوم على التعددية والشفافية والحوكمة الرشيدة.