منذ أشهر يتكشف مشروع غير مسبوق يجري العمل عليه ويهدف إلى إحداث تغيير جذري في طبيعة الحكم في سوريا، تغيير لا يتم ضمن أي مشاركة سياسية أو رغبة سورية جامعة بل يصب في خدمة مصالح جماعة متفردة بالسلطة. المعلومات التي حصل عليها مرصد الشفافية تؤكد أن القائد العام لتنظيم “هيئة تحرير الشام” والمُنصّب من الفصائل العسكرية كرئيس للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع لم يكتف هو وتنظيمه بالاستحواذ على المرحلة الانتقالية والتفرد بالسلطة بل يسعى إلى تحويل النظام بأكمله إلى ملكي وتنصيب نفسه ملكاً على البلاد.

وخلال اجتماعاته مع ما يسمى “اللجنة العليا للانتخابات” عبّر الشرع بوضوح عن هذه الرغبة مشيراً إلى أن المطلوب اختيار أشخاص منسجمين مع هذه التوجهات ليصبح ما يسمى “مجلس الشعب” مجرد أداة تمنحه الغطاء الشرعي للتصويت على هذا التحول التاريخي. كما كلّف فريقه القانوني في مؤسسة الرئاسة بالتحضير للإجراءات الدستورية والقانونية اللازمة، ليظهر التغيير وكأنه مسار منظم مدعوم برغبة شعبية بينما يعكس في جوهره رغبة السلطة وحدها بعيداً عن أي مشاركة سياسية أو إرادة سورية جامعة.

المجلس المُزمع تشكيله لن يكون نتاج انتخابات حرّة بل سيجري تشكيله عبر التعيين مع احتفاظ الشرع بحق تسمية ثلث معطّل يضمن له السيطرة على جميع القرارات. الهدف من هذا الترتيب ليس تمثيل الشعب بل تأمين واجهة قانونية وشكلية لمخططاته بدءاً من تغيير اسم المجلس إلى مجلس الأمة وصولاً إلى إقرار أي قوانين أخرى تنسجم مع الأنظمة الملكية.

هذا المسار لا يمكن أن يكون قراراً فردياً بل يعكس توافقاً داخل الصف الأول من قيادة هيئة تحرير الشام التي يقف بعض قادتها اليوم في مواقع سيادية داخل الدولة. وزير العدل مظهر الويس مثال واضح على ذلك حيث يقود بنفسه التحضيرات القانونية لتغييرات واسعة في البنية القضائية. انصهار تنظيم هيئة تحرير الشام داخل الدولة في الأشهر الأخيرة واحتكار المناصب السيادية والعُليا في كل المؤسسات بلا استثناء يمنح الشرع شبكة دعم داخلية تحوّل مشروعه إلى مسار سياسي مؤسسي وليس مجرد طموح شخصي.

التغييرات العميقة التي شهدتها مؤسسات الدولة في الأشهر الأخيرة أثارت الكثير من الاستغراب والجدل، ليس فقط لأنها تجاوزت صلاحيات الإدارة الانتقالية، بل لأنها أدت إلى تعديلات جذرية في البنية المؤسسية للدولة تتناقض مع النظام الجمهوري الديمقراطي. ومع الوقت بات من الواضح أن هذه التحولات ليست خطوات معزولة، بل أقرب إلى تحضيرات منظمة تمهد للانتقال نحو نظام ملكي. ومن أبرز هذه التحولات ما طرأ على صلاحيات الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، التي لم تعد مجرد جهاز إداري بل أصبحت مركزاً فعلياً لإدارة الدولة يتجاوز الحكومة والوزارات، تصدر عنها بلاغات وقرارات سيادية وتعقد برئاستها اجتماعات وزارية علنية، كما أنشأت لجاناً مركزية للتشريع والتخطيط، لتشكل بنية أشبه بديوان ملكي يسيطر على مفاصل القرار التنفيذي والمالي بعيداً عن أي رقابة حكومية أو برلمانية.

إلى جانب ذلك أُنشئت هيئات مالية وإدارية مستقلة مربوطة مباشرة بالرئاسة مثل الصندوق السيادي وهيئة الاستثمار، كما أُلحقت الاستخبارات العامة بالرئاسة مباشرة لتصبح بدورها  فوق أي مساءلة أو محاسبة. ويأتي هذا كله في ظل الإعلان الدستوري الذي وضع مؤسسة الرئاسة فوق أي رقابة. هذه المنظومة المترابطة مع الأمانة العامة تتحول تدريجياً إلى ما يشبه ديواناً ملكياً متكاملاً، ما يجعل التغييرات بأكملها تصب في اتجاه تهيئة الأرضية للانتقال نحو نظام ملكي يعكس ملامح السلطة الجديدة التي يسعى الشرع إلى فرضها.

بالتوازي مع ذلك هناك عشرات القوانين التي تم إعدادها في الوزارات السيادية واطلع مرصد الشفافية على بعض منها. هذه القوانين تُظهر بوضوح أن التحول يستند إلى رؤية أيديولوجية لتنظيم هيئة تحرير الشام الأمنية والقضائية والاقتصادية. جوهرها إدارة شديدة المركزية وخصخصة واسعة وربط الاستثمارات مباشرة بنفوذ الشرع والمقرّبين منه باعتباره سلطة مطلقة، مع إدماج أكبر للشريعة الإسلامية في المناهج والمؤسسات الحكومية والقضاء من خلال تغيير التشريعات والاعتماد على شرعيين يجري تأهيلهم وتثبيتهم في مواقع حكومية وقضائية.

ورغم أن الاتجاه نحو الملكية أصبح معلناً في الدوائر الداخلية إلا أن الشكل النهائي للنظام لم يتضح بعد نظراً لصعوبة معرفة المخططات الحقيقية داخل القيادة المركزية لتنظيم هيئة تحرير الشام التي تمثل السلطة الفعلية في دمشق. ويبقى التساؤل قائماً حول قرارهم بشأن شكل الملكية المقبلة، فهل سيكون النظام ملكية وراثية لعائلة الشرع، أم صيغة ذات طابع إسلامي يُختار فيها الملك عبر مجلس أعلى يحاكي “أهل الحل والعقد” على نحو يشبه مبايعة “المرشد الأعلى” في إيران، أم أن هناك شكلاً آخر لم يتضح بعد.

المرحلة الانتقالية في سوريا كان يفترض أن تكون حقاً للشعب وفرصة لبناء دولة قائمة على الشفافية والمساءلة والمشاركة الشعبية. لكن ما يحدث اليوم يسير في الاتجاه المعاكس تماماً. القرارات تتخذ خلف الأبواب المغلقة وما يُسمى “مجلس الشعب” المقبل مجرد أداة شكلية والقوانين تفصّل على مقاس السلطة والمشروع الملكي يخدم فقط مصالح ضيقة لقيادات هيئة تحرير الشام. هذه المصالح تأتي أولاً لضمان بقاء الشرع ومحيطه في السلطة وثانياً لضمان استمرار التنظيم كمرجعية عليا فوق الدولة.

ما يجري اليوم يمثل انحرافاً كاملاً عن جوهر المرحلة الانتقالية ومصادرة لحق الشعب السوري في تقرير مستقبله. فبدل أن تكون هذه المرحلة فرصة لتأسيس دولة مواطنة ديمقراطية تتحول إلى مشروع سلطوي مغلق يستبدل الاستبداد الجمهوري باستبداد ملكي فئوي يرسخ غياب المحاسبة والرقابة الشعبية. وهذا الواقع يضع أمام السوريين واجباً ملحاً لاستعادة الإرادة السياسية وإعادة المرحلة الانتقالية إلى مسارها الطبيعي وبناء الدولة المنشودة القائمة على المواطنة والشفافية والمساءلة والمشاركة الشعبية.