منذ تأسيس الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية كصندوق مُغلق للموارد، لم تتوقف صلاحياتها عن التوسع. ومع القرار رقم 103 بتاريخ 13.08.2025 الصادر عن الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية بتشكيل لجنة اقتصادية برئاسة رئيس هيئة المنافذ، اتضح أن “الصندوق” لم يعد مقتصراً على الجباية والسيطرة على الإيرادات، بل ابتلع أيضاً صلاحيات الإنفاق والمناقصات على كل مستويات الدولة، ليصبح مدخل المال العام ومخرجه في يد جهة واحدة. (نسخة عن القرار في آخر المقال)
هذه اللجنة التي أُعلن عنها لا تحمل في جوهرها ملامح لجان التخطيط والسياسة الاقتصادية المعروفة عالمياً، بل أقرب ما تكون إلى منصب آمر الصرف الأعلى في الدولة. فهي تدرس طلبات الجهات العامة بشأن الاحتياجات المطلوبة، وتضع تقارير مالية مع محاسب الإدارة عن توفر الاعتماد المالي، وتقر العقود التي تزيد قيمتها عن 500 مليون ليرة سورية أو ما يعادلها بالقطع الأجنبي، وتشرف على دفاتر الشروط، وتعلن عن المناقصات، وتفرز العروض، وتقرّر إحالة العقود وصرف المستحقات. أي أنها أمسكت بمفاصل المشتريات العمومية وألغت فعلياً دور الوزارات المعنية، وعلى رأسها وزارة المالية، التي يفترض أن تكون المرجعية الطبيعية لهذه المهام.
اللجنة التي شُكلت تضم في ظاهرها معاونين لوزراء المالية والاقتصاد والزراعة والطاقة، لكن التدقيق في الأسماء يكشف أن معظمهم من الوزراء السابقين في حكومة تصريف الأعمال الذين جرى تدويرهم ليصبحوا معاونين للوزراء في الوزارات نفسها. بمعنى أن الوجوه ذاتها عادت بصفات مختلفة لمواصلة التحكم بالقرار. والأهم أن هؤلاء جميعاً مرتبطون بتنظيم هيئة تحرير الشام، ما يجعل اللجنة الاقتصادية مجرد واجهة شكلية لاستمرار نفوذ التنظيم في الإمساك بمفاصل المال العام.
وبذلك بات رئيس هيئة المنافذ يجمع بين تحصيل الإيرادات من المعابر والجمارك والموانئ، وبين تقرير كيفية صرف هذه الأموال من خلال العقود والمناقصات. هذا الدمج يكرّس تضارباً صارخاً في المصالح ويقضي على أي إمكانية للرقابة أو الفصل بين السلطات، إذ من يفترض به أن يخضع للرقابة أصبح هو المراقِب والمنفّذ والمستفيد في آن واحد.
تثير هذه التطورات مخاوف جدية بشأن الكيفية التي ستُدار بها المناقصات وعمليات الصرف على كافة مستويات الدولة، وما قد يرافق ذلك من تضييق شديد على عمل الوزارات والمؤسسات الحكومية بفعل مركزية قرارات الصرف. فشدة المركزية في آمرية الصرف والمناقصات وحصرها بلجنة صغيرة وغير شفافة مرتبطة مباشرة بالسلطة يثير هواجس إضافية من غياب التوازن المؤسسي. كما أن غياب الشفافية في آليات الإعلان وعدم وضوح دفاتر الشروط أو معايير اختيار الشركات قد يفتح الباب أمام ممارسات تمنح العقود لكيانات غير معروفة أو منظمات وهمية، ليصبح الصرف والمناقصات أداة لتصريف الأموال بعيداً عن الرقابة والمحاسبة.
بهذا القرار الجديد لم يتغير جوهر هيئة المنافذ، بل تضخّم الصندوق الأسود وابتلع المزيد من الصلاحيات، ليغدو أقرب إلى كانتون مالي حقيقي داخل الدولة. فهو يجبي ويصرف ويقرّر دون أن يمر عبر القنوات الطبيعية للدولة، في تكريس مستمر لنهج الدولة الغنيمة. إن ربط مدخل المال العام ومخرجه بيد جهة واحدة خارج الموازنة والرقابة البرلمانية ليس مجرد خلل إداري، بل خطوة تهدد وجود الدولة كمؤسسة وتضع المجتمع كله أمام سلطة مغلقة تتحكم بالمصادر والمصارف بلا شفافية ولا محاسبة.

