مقدمة
في الثاني من آب/أغسطس عام 2025 شهدت المنطقة تطوراً ظاهره تقني يهدف إلى تلبية حاجات سوريا الأساسية من الغاز لإنتاج الكهرباء، غير أن أبعاده السياسية والاستراتيجية كانت أوضح بكثير من تفاصيله الفنية. فقد بدأ الغاز الأذري يتدفق لأول مرة إلى سوريا عبر خط كيليس حلب الذي اكتمل إنشاؤه في أواخر عام 2011 لكنه ظل مُعطّلاً طوال أكثر من عقد. من اللحظة الأولى بدا أن المسألة لا تقتصر على عقد لتزويد محطات كهرباء سورية ببعض ملايين الأمتار المكعبة من الغاز، بل أنها تحمل إشارة مبكرة لاحتمال عودة سوريا إلى موقعها التاريخي كممر تجاري بين الشرق والغرب، ولكن هذه المرة من بوابة الطاقة. بالنسبة لشركة النفط الوطنية الأذربيجانية “سوكار” فإن الاتفاق مع دمشق يمثل خطوة تتجاوز إطار البيع والشراء لتفتح أفقاً أوسع لرؤية استراتيجية طويلة المدى تجعل من سوريا بوابة لربط شبكات الغاز الإسرائيلية والتركية والأوروبية [1]. أما بالنسبة لإسرائيل فقد وجدت في هذه التطورات فرصة لإحياء حلم قديم يتمثل في إيجاد طريق عملي لتصدير غازها إلى أوروبا بديلاً عن مشروع EastMed البحري الذي ظل مجمداً [2].
أذربيجان من مُصدّر إلى مركز توزيع إقليمي
منذ سنوات طويلة اعتمدت أذربيجان على الممر الجنوبي للغاز الذي ينقل مواردها عبر جورجيا وتركيا وصولاً إلى أوروبا. غير أن الاتفاق الأخير مع سوريا يعكس تحولا في الرؤية. فبدلاً من الاكتفاء بدور المُصدّر إلى الغرب تسعى أذربيجان إلى التحول إلى موزّع إقليمي يتحكم بمفاصل العبور في كل الاتجاهات. التدفقات الأولى إلى سوريا بلغت قرابة ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف متر مكعب يومياً أي ما يقارب ملياراً ومئتي مليون متر مكعب سنوياً. وهناك خطط لرفع الكميات إلى ستة ملايين متر مكعب يومياً أي نحو مليارين متر مكعب سنوياً [3]. هذه الكميات ستوجه بالدرجة الأولى لتغذية محطات كهرباء قادرة على إنتاج ما بين تسعمئة وألف ومئتي ميغاواط وهو ما يضاعف بشكل ملحوظ ساعات التغذية في المدن السورية التي عانت لسنوات من انقطاع شبه دائم [4].
الأكثر أهمية من الأرقام هو استعداد شركة سوكار الأذربيجانية لاستثمار مبالغ كبيرة في البنية التحتية السورية. أعلنت شركة سوكار عن نيتها استثمار ما يقارب مئتي مليون دولار أمريكي لإعادة تأهيل وصيانة وتوسعة البنية التحتية القائمة في مقطع يبلغ طوله نحو مئة وخمسين كيلومتراً ويمتد من مدينة حمص حتى الحدود التركية، لكن هذه النية لم تأخذ بعد طابعاً رسمياً في علاقتها مع الجانب السوري [5]. هذا الاستثمار لا يهدف فقط إلى تلبية حاجة الاستهلاك السوري بل إلى دمج الشبكة السورية بالتركية وفتح الباب أمام تحويل سوريا إلى ممر إقليمي للغاز.
خط الغاز العربي والوصلة السورية التركية
من المهم الإشارة إلى أن الخط الذي ينقل الغاز اليوم بين تركيا وسوريا ليس مشروعاً منفصلاً بالكامل، بل هو الامتداد الشمالي لما عُرف بمشروع الخط العربي للغاز. هذا المشروع صُمم أساساً لربط مصر والأردن وسوريا ثم تم توسيعه شمالاً باتجاه تركيا بهدف التهيئة لتصدير الغاز القطري إلى أوروبا مروراً بالسعودية والأردن وسوريا وتركيا. غير أن الجزء العابر من الأراضي السعودية ما زالت تكتنفه ضبابية كبيرة، إذ لا توجد معلومات مؤكدة حول ما إذا كان قد جرى إنجازه فعلياً أو حتى البدء بتنفيذه، بينما اكتملت فعلياً الأجزاء التي تربط بين سوريا وتركيا [6]. هذا الواقع يفتح المجال أمام اعتبار الوصلة السورية التركية فرصة استراتيجية لتحويل سوريا إلى جسر طاقة حقيقي، وهو ما يعزز طموحات أذربيجان وإسرائيل في الاستفادة من وجود بنية تحتية جاهزة يمكن تفعيلها في مشاريع التصدير المستقبلية [7].
الشراكة الثلاثية بين تركيا وقطر وأذربيجان
صحيفة “جلوبس” الإسرائيلية أكدت أن سوكار تنظر إلى سوريا باعتبارها بوابة لربط البنى التحتية الإسرائيلية والتركية والأوروبية [1]. غير أن هذه الرؤية لا تنفصل عن السياق الإقليمي الأوسع، إذ تتقاطع مع طموح تركيا التي تعمل منذ سنوات على ترسيخ نفسها كمركز لتسعير وتوزيع الطاقة نحو أوروبا، وتجد في وصلتها مع سوريا تعزيزاً لمكانتها كحلقة وصل لا غنى عنها في شبكة الطاقة الإقليمية. كما أن دخول قطر على خط التمويل يضيف بُعداً آخر، فهي لا ترى في الأمر مجرد دعم مالي بل تعتبره جزءاً من رؤيتها الاستراتيجية الرامية إلى توسيع نفوذها في سوق الطاقة العالمي. ومن خلال هذا المشروع تسعى الدوحة إلى فتح منافذ جديدة لتعزيز دورها في مجال الطاقة إلى جانب ريادتها العالمية في قطاع الغاز المسال، وبناء شراكات إقليمية ترسخ حضورها في شرق المتوسط. بذلك يتحول المشروع إلى شراكة ثلاثية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية تجمع أنقرة وباكو والدوحة، وتجعل من سوريا إلى جانب الأردن عنصراً مكمّلاً في معادلة إقليمية أكبر. بهذا المعنى تبدو سوريا في عين الشراكة الثلاثية وخاصة باكو أكثر من مجرد سوق محلي محدود الكميات، بل حلقة مفقودة يمكن أن تعيد رسم خريطة عبور الغاز في شرق المتوسط.
إسرائيل بين النفط والغاز
العلاقة بين إسرائيل وأذربيجان تقوم بالأساس على النفط. فمنذ أوائل الألفية شكّل الخام الأذري ما بين أربعين وستين بالمئة من احتياجات إسرائيل النفطية حيث ينقل عبر خط باكو-تبليسي-جيهان وصولاً إلى ميناء جيهان التركي ومنه عبر ناقلات إلى عسقلان [8]. هذا الاعتماد جعل من أذربيجان شريكاً لا غنى عنه في تأمين الطاقة لإسرائيل.
غير أن اكتشاف حقول الغاز الكبرى تمار وليفياثان في شرقي البحر المتوسط غيّر المعادلة بالكامل. فقد تمكنت إسرائيل من تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغاز، لتتحول بعدها تدريجياً إلى دولة مُصدّرة تزوّد الأردن بالغاز وتبيع كميات لمصر التي تقوم بإسالته وإعادة تصديره [9]. أما الهدف الأبعد فيتمثل في أن تصبح إسرائيل أحد المصادر الرئيسية لإمداد أوروبا بالغاز. من هنا برز مشروع EastMed الذي خُطط له لنقل الغاز من إسرائيل عبر قبرص واليونان وصولاً إلى إيطاليا، وهو مشروع بدا واعداً في بداياته لكنه ظلّ مُعلقاً بسبب تكلفته الباهظة التي تقارب سبعة مليارات دولار أمريكي، والصعوبات التقنية المرتبطة بمد أنبوب بحري طوله نحو ألفي كيلومتر، إضافة إلى قرار الإدارة الأميركية عام 2022 بعدم تقديم الدعم له [10].
في هذا السياق بدأت إسرائيل تنظر إلى سوريا بزاوية جديدة. فالمسار البري عبر الأردن وسوريا وتركيا يبدو أقصر وأرخص وأكثر قابلية للتنفيذ إذا ما تحققت الترتيبات السياسية والأمنية المطلوبة. وجود جزء من البنية التحتية جاهز بالفعل مثل الخط العربي والوصلة التي أعيد تشغيلها بين كيليس وحلب يجعل الفكرة أكثر واقعية [6][2].
كما تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل وبعد أيام قليلة من بدء تدفق الغاز الأذري إلى سوريا، استأنفت عمليات ضخ الغاز إلى كل من الأردن ومصر بعد توقف استمر عدة أشهر. هذا التطور أبرز أن تحركات إسرائيل وأذربيجان في المنطقة لم تكن معزولة عن بعضها بل جاءت في إطار دينامية أشمل لإعادة إدماج شرق المتوسط في سوق الطاقة العالمي [11].
الالتباس بين الغاز الأذري والإسرائيلي
المشهد يصبح أكثر تعقيداً مع دخول شركة سوكار الأذربيجانية إلى الداخل الإسرائيلي. ففي آذار/مارس 2025 منحت وزارة الطاقة الإسرائيلية رخص استكشاف جديدة لائتلاف شركات يضم سوكار الأذربيجانية وبي بي (BP) البريطانية ونيو مِد (NewMed) الإسرائيلية في منطقة بحرية مجاورة لحقل ليفياثان. كما استحوذت الشركة الأذرية على عشرة بالمئة من حقل تمار [12]. هذه التطورات تجعل سوكار لاعباً مباشراً في قطاع الغاز الإسرائيلي.
يبرز هنا تساؤل جوهري حول ما إذا كان توقيع دمشق لعقد مع سوكار يعني بالضرورة أن الغاز المتدفق إليها مصدره من بحر قزوين. الإجابة ليست محسومة، فعمليات تجارة الطاقة الحديثة تسمح بخلط الموارد عبر آليات المقايضة أو ما يُعرف بالـ swap، بحيث يجري معادلة الغاز في نقاط تسليم متعددة. ومع وجود سوكار في إسرائيل وتركيا وسوريا فإن للشركة مساحة واسعة لإدارة مثل هذه العمليات. والنتيجة المحتملة أن جزءاً من الغاز الذي يدخل الأراضي السورية قد يكون إسرائيلياً في الأصل لكنه يُسوَّق تحت اسم الغاز الأذري [1][12].
هذا الاحتمال يفتح الباب أمام سيناريو بالغ الأهمية، إذ يتيح لإسرائيل اختبار الممر السوري التركي نحو أوروبا من دون إعلان رسمي أو رفع علمها، وإنما عبر غطاء تجاري توفره سوكار. وبذلك يمكن لإسرائيل أن تبدأ بتصدير غازها إقليمياً وهي لا تزال في حالة عداء معلن مع دمشق. هذا النوع من الترتيبات غير المباشرة يتيح لطرفين متخاصمين العمل معاً اقتصادياً من دون الدخول في التزامات سياسية علنية [13][14]. كما أن التجارة في موارد الطاقة كثيراً ما تُستخدم كبوابة أولية للتقارب السياسي، حيث يسبق البُعد الاقتصادي أي مسار تفاوضي رسمي حول الملفات الأكثر تعقيداً [15].
مع ذلك فإن الوصول إلى مرحلة تطبيع كامل يبقى رهناً بتسوية سياسية شاملة أو على الأقل بتفاهمات مرحلية قد تتطور لاحقاً إلى معاهدة سلام. التجارة في موارد الطاقة يمكن أن تكون أداة لبناء الثقة لكنها لا تكفي وحدها لإحداث اختراق من دون غطاء شرعي وسياسي ومؤسسي متين [16][17]. من هنا قد يبدأ المسار فعلياً بخطوات تجارية هادئة وغير معلنة، لكنها ستظل محدودة الأثر ما لم تُستكمل بإطار سياسي واضح يضفي الشرعية ويضمن الاستمرارية.
التحديات أمام مشروع “سوريا الجسر”
رغم الطموحات الكبيرة، يبقى تحويل سوريا إلى ممر للطاقة رهيناً بجملة من العوامل المعقدة والمتشابكة. أول هذه العوامل هو البعد الأمني، إذ تمر خطوط الغاز في مناطق لا تزال عرضة لاشتباكات مسلحة وأعمال تخريبية، الأمر الذي يجعل أي استثمار فيها محفوفاً بمخاطر عالية ويزيد من تكاليف التأمين والحماية [4].
العامل الثاني يتمثل في الإطار السياسي، حيث ما زالت سوريا خاضعة لعقوبات أميركية وأوروبية مشددة، وهو ما يعني أن أي مشروع يربطها مباشرة بالأسواق الأوروبية أو بإسرائيل سيصطدم بعقبات قانونية وإجرائية صعبة تتطلب تفاهمات دولية أو استثناءات خاصة [10].
أما العامل الثالث فهو التنافس الإقليمي، إذ تسعى مصر إلى تكريس نفسها كمركز لتسييل الغاز وإعادة تصديره من خلال محطاتها القائمة، فيما تعمل تركيا على تعزيز مكانتها كمحور إقليمي لتسعير الطاقة يعتمد عليه في نقل الغاز إلى أوروبا. وفي المقابل تواصل قبرص واليونان الدفع نحو مشروع EastMed رغم تعثره، في محاولة لتأمين دور لهما في خريطة الطاقة في شرق المتوسط [8].
إلى جانب هذه التحديات، يبرز عامل التمويل باعتباره حجر عثرة أساسي، فالمشروعات المرتقبة تحتاج إلى استثمارات بمليارات الدولارات، وهو ما يتجاوز بكثير قدرات الاقتصاد السوري المُنهك. ويضاف إلى ذلك ضرورة توافر أُطر تنظيمية وقانونية عابرة للحدود تكفل العبور الحر للغاز وتضمن حقوق الأطراف كافة، وهي أمور تتطلب وقتاً وجهداً لبنائها وصياغتها بشكل مقبول دولياً. كما أن غياب بيئة استثمارية مستقرة وموثوقة سيظل عائقاً رئيسياً أمام جذب شركات الطاقة العالمية للمشاركة في أي مشاريع توسعية أو لتوفير التمويل اللازم [13][14]..
منظور الشفافية والحوكمة داخل سوريا
تدور في الكواليس مباحثات بين أطراف من الإدارة الانتقالية السورية وإسرائيل، مع أحاديث عن أكثر من جولة خلال الأشهر الأخيرة، غير أن ما رشح إلى العلن محدود للغاية ولا يقدم تفاصيل عن عمق الملفات المطروحة أو جدول الأعمال، وهو ما تدل عليه التقارير التي تحدثت إلى لقاءات مباشرة أو غير مباشرة بدون الإفصاح عن مضامينها أو مخرجاتها التفصيلية [13][14]. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مباحثات جرت بالفعل على أعلى مستوى بين أحمد الشرع شخصياً ومسؤولين إسرائيليين أثناء زيارته إلى أذربيجان، وهي الزيارة التي أُعلن جزء منها باعتباره صفقة لتصدير الغاز الأذربيجاني إلى سوريا، ما يعزز التحليل بأن البُعد السياسي لم يكن منفصلاً عن الاقتصادي ولا يمكن أن يكون مجرد صدفة [15]. في القضايا الشائكة اجتماعياً وسياسياً مثل مسارات التطبيع أو اتفاقات عبور الطاقة، يصبح معيار الشفافية والحوكمة الرشيدة والمشاركة السياسية مع ضمان المشاركة السياسية شرطاً تأسيسياً لا رفاهية إجرائية.
تُظهر المعايير الدولية في حوكمة الموارد والاستخراج أن الحد الأدنى من الإفصاح العام يُعد شرطاً أساسياً قبل إبرام أي التزامات طويلة الأجل. وتؤكد هذه المعايير أن الشفافية يجب أن تبدأ منذ المراحل الأولى حتى قبل الوصول إلى مرحلة العقود، مع إتاحة تفاصيل واضحة خاصة في الملفات الحساسة مثل الوضع الشعبي السوري بما يرتبط بصفقات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل. ويشمل ذلك نشر العقود والملحقات الفنية والمالية المتعلقة بقطاع النفط والغاز، وإتاحة المجال أمام الجمهور للاطلاع على الرسوم والتعريفات وترتيبات العبور والالتزامات البيئية والاجتماعية وخطط التعويض والمخاطر. هذه المتطلبات منصوص عليها في معايير مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية لعام 2023 بما في ذلك التزامات شفافية العقود [15][16]. كما يقتضي النهج الرشيد اعتماد «سلسلة القرارات» في ميثاق الموارد الطبيعية بحيث تُبنى السياسات على استراتيجية معلنة وإطار قانوني واضح ومؤسسات قادرة وخاضعة للمساءلة المجتمعية [17].
من الناحية المالية، توصي مدونة الشفافية المالية لصندوق النقد بإدماج أي إيرادات ورسوم عبور وصناديق سيادية محتملة داخل إطار الموازنة ووثائق التوقعات على نحو يمكن تتبعه ومراجعته علناً، مع الإفصاح عن المخاطر الطاقية والالتزامات الطارئة المرتبطة بالمشروعات الكبرى [18][19]. وعلى مستوى تنفيذ البنية التحتية تشير مبادئ منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لحوكمة الشراكات بين القطاعين العام والخاص إلى ضرورة وجود إطار مؤسسي لكلفة مقابل منفعة واختيار المشاريع على أساس قيمة المال العامة وآليات لإدارة تضارب المصالح والمسؤوليات التعاقدية [20].
في المشروعات العابرة للحدود، تبرز أيضاً أهمية الشفافية التعاقدية المفتوحة في البنية التحتية، بما في ذلك نشر بيانات المشروعات ومؤشرات الأداء وفق معايير «الانفتاح في عقود البنية التحتية» وضمان نفاذ عادل وغير تمييزي للأطراف الثالثة إلى الشبكات حيثما كان ذلك مطبقاً، وهي ممارسات تدعو إليها مبادرات الانفتاح في العقود وتقارير البنك الدولي حول أفضل الممارسات في حوكمة عبور الغاز [21][22].
استناداً إلى ما سبق، لا تبدو الإدارة الانتقالية المؤقتة في سوريا مؤهلة بمفردها لإبرام تفاهمات كبرى بحجم اتفاقات سلام أو ترتيبات تطبيع أو صفقات تجارية غير مباشرة ذات أثر عميق على المجتمع والدولة أو صفقات اقتصادية استراتيجية دولية من دون تفويض شرعي واضح. المسار الأمثل يتطلب وجود حكومة شرعية منبثقة عن انتخابات نزيهة وهيئة تشريعية فاعلة تمارس الرقابة والمساءلة، مع إمكانية إحالة القضايا السيادية الكبرى إلى استفتاء عام يشارك فيه جميع السوريين. وقبل الوصول إلى هذه المرحلة، يمكن تبني خطة مرحلية للشفافية تشمل إصدار ورقة بيضاء توضح الخيارات المتاحة، وإطلاق مشاورات عامة، وتأسيس هيئة تنظيمية رقابية متخصصة لقطاع الطاقة تكمّل دور وزارة الطاقة وتعمل بشراكة سياسية ومجتمعية، والانضمام الطوعي إلى معايير الشفافية الاستخراجية، ونشر العقود والتعريفات ورسوم العبور، وإخضاع أي اتفاقات انتقالية لمراجعة قضائية وبرلمانية لاحقة.
خاتمة
الصفقة التي دخلت حيز التنفيذ في أغسطس 2025 لا يمكن النظر إليها كإجراء تقني محدود، بل كتجربة تعكس حجم التحولات المحتملة في موقع سوريا ودورها. بالنسبة إلى أذربيجان تمثل بداية انتقالها من مجرد مصدّر إلى مركز توزيع إقليمي يسعى إلى مد نفوذه عبر البنية التحتية السورية وصولاً إلى أوروبا. أما بالنسبة لإسرائيل فهي فرصة لإحياء طموح مجمّد طالما اصطدم بالمعوقات، وهو تصدير الغاز إلى أوروبا بوسيلة أسرع وأقل تكلفة من مشروع EastMed البحري.
لكن على المستوى السوري الداخلي، تبقى هذه التطورات محاطة بدرجة عالية من الالتباس. فغياب الوضوح حول طبيعة العقود الاستثمارية الأخيرة مع أذربيجان، وتفاصيل المنحة القطرية، ومصدر الغاز عند زيادة حجم الضخ، إلى جانب الاكتفاء بإعلان أرقام عامة من دون الإفصاح عن الشروط والالتزامات الحقيقية، فضلاً عن توقيت المباحثات السرية مع إسرائيل، كلها عوامل تضع المجتمع السوري أمام تساؤلات جوهرية تتعلق بالشفافية والشرعية. فالتعامل مع ملفات بهذه الحساسية لا يمكن أن يتم في الخفاء أو بعيداً عن النقاش العام والمؤسسات المنتخبة. إن تحويل سوريا إلى جسر للطاقة قد يفتح آفاقاً اقتصادية مهمة، لكنه في الوقت نفسه يشكل اختباراً حقيقياً لمدى التزام الإدارة الانتقالية بمبادئ الشفافية والحوكمة الرشيدة والمشاركة السياسية.
وبين الطموح والواقع، يظل انحراف مسار العملية الانتقالية وغياب المشاركة السياسية الشاملة، إلى جانب هشاشة الوضع الأمني واستمرار العقوبات والتنافس الإقليمي، عوامل تضغط بقوة على أي مسار عملي. ومع ذلك فإن ما جرى في آب/أغسطس 2025 يوضح أن سوريا لم تعد مجرد مستهلك للطاقة، بل قد تستعيد موقعها كممر محوري بين الشرق والغرب. غير أن نجاح أي مشروع مستقبلي يتوقف على انتقال سياسي شامل يضع أسساً واضحة للشرعية، وعلى مشاركة مجتمعية واسعة، ومساءلة سياسية شفافة، وتفويض شعبي يضمن الاستمرارية.
المراجع
[1] Globes – Azerbaijan sees Israel as integral part of regional energy market (31/07/2025)
[2] Caliber.az – Energy evolution: Azerbaijan links Israel, Syria and Türkiye (31/07/2025)
[3] Reuters – Azerbaijan to export 1.2 bcm gas to Syria via Turkey annually (02/08/2025)
[4] AP News / SOCAR Press Release – Export of Azerbaijani Gas to Syria via Türkiye Has Commenced (08/2025)
[5] Aze.Media – Azerbaijan supplies gas to Syria with long-term goals connecting to Israel (31/07/2025)
[6] Atlantic Council – Syria’s energy sector and its impact on stability and regional developments (2020)
[7] European Union Institute for Security Studies (EUISS) – Energising Syria’s Future (2021)
[8] BESA Center – The Syrian pipeline game: Turkey’s plans and Israel’s regional ambitions
[9] Azerbaijan–Israel relations (official data & energy trade reports, accessed 2025)
[10] Atlantic Council – EastMed pipeline and US policy (2022)
[11] The Jerusalem Post – Israel resumes natural gas exports to Jordan and Egypt after months-long halt (08/2025)
[12] Reuters – Israel awards natural gas exploration licences to BP, Socar and NewMed (17/03/2025)
[13] Euronews – Syria and Israel hold first direct talks in US-brokered meeting (20/08/2025)
[14] Emirates Policy Center – The Syrian-Israeli Talks: Is an Agreement on the Horizon? (31/07/2025)
[15] EITI – EITI Standard 2023 (Overview page, June 2023)
[16] EITI – Contract transparency requirements under EITI Standard (Requirements 2.2, 2.3, 2.4)
[17] NRGI – The Natural Resource Charter Decision Chain (primer)
[18] IMF – Fiscal Transparency Code 2019, Pillar IV on natural resource revenue management
[19] IMF – Fiscal Transparency initiative: Integration of natural resource management issues (policy paper, 2019)
[20] OECD – Recommendation on Principles for Public Governance of Public-Private Partnerships (updated documentation)
[21] Open Contracting for Infrastructure – OC4IDS and disclosure tools (CoST/OCP)
[22] World Bank – Gas Sector Strategy Note: transit and third‑party access good practices